المغرب يسجّل ستة عشر عنصرًا من عناصر التراث غير المادي لدى اليونسكو
يعكس هذا الإنجاز حجم الغنى الذي يميّز الممارسات الفنية والاجتماعية والاحتفالية في المغرب، وحرصه على صونها باعتبارها مستودعًا للذاكرة الجماعية ورافعةً للتنمية الثقافية.

يمثّل تنوّع التراث الثقافي المغربي أحد أبرز مكوّنات الهوية الوطنية ومرآةً لتاريخٍ ممتدّ عبر قرون من التفاعل البشري والحضاري. وقد حظي هذا التراث باهتمامٍ دولي متزايد تُرجم في تسجيل ستة عشر عنصرًا من عناصر التراث الثقافي غير المادي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو). ويعكس هذا الإنجاز حجم الغنى الذي يميّز الممارسات الفنية والاجتماعية والاحتفالية في المغرب، وحرصه على صونها باعتبارها مستودعًا للذاكرة الجماعية ورافعةً للتنمية الثقافية.
ويمثّل تسجيل ستة عشر عنصرًا مغربياً في قوائم اليونسكو شهادةً على قدرة المغرب على صون ذاكرته الثقافية، واستمراره في تقديم نموذج حضاري يوازن بين الأصالة والتجديد. إنه التزامٌ بمستقبل تُحفظ فيه جذور الهوية، وتُصان فيه روافد التنوع التي جعلت من المغرب فضاءً للتعايش وملتقى للحضارات.
يحتلّ التراث غير المادي مكانة مركزية في رؤية المغرب للثقافة، إذ لا يُنظر إليه بوصفه ماضياً متجمّداً، بل كطاقة حيّة تتجدّد عبر الأجيال. وقد تمكّن المغرب، عبر سياسات راسخة ومبادرات مجتمعية واسعة، من تقديم ملفّات متكاملة لليونسكو، تبرز القيمة العالمية لهذه العناصر، وتُظهر قدرتها على الإسهام في تكريس الحوار الثقافي وحماية التنوع الإنساني. تشمل العناصر المسجّلة أنماطاً موسيقية عريقة مثل فن كناوة، الذي يعكس تمازجاً بين الإفريقي والأمازيغي والعربي، ويعبّر عن تجربة روحية وإنسانية فريدة. كما سُجّل فن الملحون باعتباره شعراً غنائياً يختزن الحكم الشعبية والتجارب الوجدانية للمغاربة، إضافة إلى طقوس وعروض موسم طانطان التي تشكّل نموذجاً حيّاً للموروث الحساني الصحراوي.
ومن بين العناصر أيضاً الصناعة التقليدية للزرابي، وفن الفروسية “التبوريدة” التي تجسّد مهارات الفارس المغربي وارتباطه بالحصان، والخوارزميات الحرفية المرتبطة بالخطّ العربي والزخرفة، فضلًا عن مهارات صناعة الآلات الموسيقية التقليدية التي تحفظ أصوات الماضي وتعيد إنتاجها في الحاضر. ولا يقلّ الشقّ الاحتفالي والديني أهمية في هذه القائمة، إذ طالت عمليات التسجيل ممارسات مرتبطة بالطقوس والأعياد، وبعض فنون الحكاية والشفوية مثل الحكاية الشعبية، التي تُعدّ خزانًا للخيال الجمعي وقيم الحكمة والتربية. كما أن حضور المطبخ المغربي بعناصره التقليدية يعكس تقديراً عالمياً لتقنيات الطهي وطقوس الوجبات التي تشكّل في حد ذاتها لغة ثقافية.
إن تسجيل هذه العناصر الستة عشر ليس مجرّد اعتراف دولي بقيمة التراث المغربي، بل هو خطوة استراتيجية لحمايته من الاندثار. فالعولمة المتسارعة، وما ترافقه من تحوّلات اجتماعية، قد تجعل الكثير من الممارسات التراثية مهدّدة بالزوال. ولهذا، فإن إدراجها في قوائم التراث الإنساني يمنحها حماية معنوية ومؤسساتية ويشجع على توثيقها وتناقلها، وعلى خلق وعي جديد لدى الأجيال الشابة بأهمية المحافظة عليها.
كما يتيح هذا الاعتراف فرصاً تنموية مهمّة، خاصة في مجال السياحة الثقافية والصناعات الإبداعية. فالمناطق التي تحتضن هذه الممارسات تستفيد من دينامية جديدة تعزّز الاقتصاد المحلي، وتفتح المجال لتنمية مشاريع قائمة على الهوية والتراث.
عض هذه العناصر مغربية بحتة، تم تصميمها وممارستها ونقلها بالكامل داخل البلاد. ومع ذلك، هناك عناصر أخرى مشتركة مع الدول المجاورة. مثل النظام الغذائي المتوسطي، وهو أمر غير مفاجئ، حيث أن الاسم يشمل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال. الأمر نفسه ينطبق على الكسكس: تراث مشترك بين المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا، وقد أثار نقاشات ثقافية حادة بين الرباط والجزائر لسنوات. كما تم تسجيل الخط العربي ومعرفة النخيل كعناصر متعددة الجنسيات تشمل المغرب بين عدة دول أخرى.
إليكم نظرة على بعض العناصر المغربية الأكثر شهرة التي تم تسجيلها من قبل اليونسكو، والمتجذرة في التاريخ والمعرفة الثقافية للمملكة.
شجرة الأركان
شجرة الأركان، التي تنمو فقط في المغرب، تحمل قرونًا من الممارسات المرتبطة بالحصاد، واستخلاص الزيت، والمنتجات الحرفية المرتبطة بها. في عام 2014، قبلت اليونسكو طلب المغرب لتسجيل هذه المهارة الثمينة في قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية.
تم تسجيل العنصر تحت عنوان «الأركان، الممارسات والمعرفة المتعلقة بشجرة الأركان»، وهو متجذر في محمية المحيط الحيوي لأركان جنوب غرب المغرب. في تقديمه، أكد المغرب أن شجرة الأركان «مركزية في الحياة الثقافية والاجتماعية للمجتمعات المحلية».
النساء القرويات هن في قلب هذه المهارة. هن الحارسات للفن الذي ينقلن الخبرة من خلال التقليد والممارسة اليومية. يوصف الملف سلسلة من الحركات الدقيقة، «من جمع وتجفيف الثمار إلى الطحن والخلط»، التي تم الحفاظ عليها عبر الأجيال.
جميع التقاليد المرتبطة، بما في ذلك صنع الطواحين اليدوية وتحضير الأطباق الاحتفالية، «تعزز التماسك الاجتماعي والاحترام المتبادل بين المجتمعات».
رقصة تاسكيوين من الأطلس الكبير
الموسيقى والحركة والإيقاع وحتى الكوريغرافيا القتالية قد منحت المغرب أيضًا مكانًا في قوائم اليونسكو. في عام 2017، قدم المغرب "تاسكيوين، رقصة قتالية من الأطلس الكبير الغربي» لتضمينها في قائمة التراث الثقافي غير المادي التي تحتاج إلى حماية عاجلة.
تُوصف تاسكيوين بأنها «رقصة قتالية خاصة بالأطلس الكبير الغربي»، تُؤدى باستخدام قرن مزين بشكل غني يُسمى تيست. يرتدي الراقصون أيضًا قطعًا زخرفية مستوحاة من الزي العسكري، ولكن بنسخ ملونة وفنية تتناسب مع المؤدين.
تتمركز الرقصة حول الإيقاع، مبنية حول «فن هز الأكتاف على إيقاع الطبول والناي». شددت اليونسكو على أهميتها الاجتماعية، مشيرة إلى أنها «تعزز التماسك وتوفر وسيلة رئيسية للتواصل الاجتماعي للشباب».
لكن تاسكيوين في خطر. حذرت الترشيحات من أن الممارسة لم تبق إلا في بعض القرى، مع تراجع سريع أيضًا في الحرف المرتبطة بأدواتها.
كناوة، موسيقى للروح
من الإيقاع القتالي إلى الغناء الروحاني، يتوسع التراث المغربي بلا توقف. في دجنبر 2019، قبلت اليونسكو اقتراح المغرب لتسجيل كناوة في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية. تم تقديم الترشيح في شتنبر 2018.
في ملف الترشيح، يوصف فن كناوة بأنه «مجموعة من الأحداث الموسيقية، والعروض، والممارسات الأخوية والطقوس العلاجية التي تمزج بين الدنيوي والمقدس». كناوة هي «قبل كل شيء موسيقى لأخوية صوفية» حيث تتضمن كلماتها «استدعاء الأجداد والأرواح».
يتتبع الملف أيضًا جذورها التاريخية العميقة إلى مجتمعات تشكلت من خلال «العبودية وتجارة الرقيق التي تعود إلى القرن السادس عشر على الأقل»، وهي تقاليد أصبحت اليوم جزءًا لا يتجزأ من «الثقافة والهوية المتعددة الأشكال للمغرب».
لاحظت اليونسكو العدد المتزايد من الأخويات والأساتذة الموسيقيين الكناويين، المدعومين من المهرجانات في جميع أنحاء المغرب وخارجه. هذه التجمعات تتيح للفنانين الشباب تعلم «الكلمات، والأدوات، والطقوس المرتبطة بثقافة الغناوة».
التبوريدة، الاستعراضات العسكرية
الفولكلور الحربي و الفروسية لهما أيضًا مكان في الكنوز الثقافية للمغرب. التبوريدة، التي قدمها المغرب في 2019، تم تسجيلها في 2021. تُوصف بأنها «أداء فروسية مغربي يعود إلى القرن السادس عشر»، تعيد التبوريدة تفسير الاستعراضات العسكرية الأمازيغية العربية القديمة. تحت قيادة قائد، تنفذ فرق من 15 إلى 25 فارسًا تشكيلات متزامنة.
فن الملحون
في عام 2023، أضافت اليونسكو الملحون، الفن الشعري والموسيقي المغربي، إلى قائمتها للتراث. تم تقديم الترشيح في 2022.
الملحون متجذر في الشعر المغنى باللغة العربية الدارجة وأحيانًا باللغة العبرية، يصاحبه العود والكمان والرباب والدفوف الصغيرة. تتراوح موضوعاته بين الحب، والروحانية، والجمال، والقضايا الاجتماعية، والسياسة، وفنون الطهي، والرحلات الخيالية.
أشادت اليونسكو بقوته التوحيدية، مشيرة إلى أنه بمزجه بين «الغناء، والمسرحية، والاستعارة، والرمزية»، يوحد الملحون «جميع المغاربة بغض النظر عن دينهم".اليوم، تستمر عملية النقل بشكل غير رسمي عبر الفنانين والمعلمين، وكذلك عبر المنشورات التي تحفظ النصوص التاريخية.
القفطان
أحدث إضافة، ومصدر فخر وطني، هو «القفطان المغربي: الفن، التقاليد والمهارات»، الذي تم تسجيله في 2025 (20.COM) بعد أن قدم المغرب ترشيحه في 2024.
يوصف الملف القفطان بأنه «رداء طويل يرتديه الناس من جميع الأجناس والأعمار في المناسبات الخاصة والاحتفالات». تتضمن عملية صنعه النساجين والخياطين والحرفيين الذين ينتجون «الأزرار، والشرائط، والتطريزات».
صرحت اليونسكو بأن القفطان هو «عنصر مهم في الحياة المجتمعية والتراث المشترك»، مشيرًا إلى أنه يحدد الوضع الاجتماعي والانتماء، بينما يخلق نظامًا بيئيًا اقتصاديًا مهمًا للحرفيين المغاربة.
