هكذا تحول اختراع أمريكي بسيط إلى السلاح الأكثر فتكاً لدى الصين
فكرة عبقرية لسائق شاحنة أمريكي، والطريقة البارعة والقاسية التي استغل بها الصينيون هذه الفكرة حتى النهاية، أحدثت التغيير - تماماً مثل تأثير الفراشة


كيف تحولت دولة والتي كانت على شفا الجوع في ستينيات القرن الماضي إلى قوة عظمى؟ الجواب يكمن في فكرة عبقرية لسائق شاحنة أمريكي، والطريقة الذكية والقاسية التي استغل بها الصينيون هذه الفكرة حتى النهاية. هذه القصة هي المثال الأمثل لتأثير الفراشة.
لفهم حجم الثورة، لنعد بالزمن إلى موانئ العالم قبل عام 1956. كان التحميل والتفريغ كابوسًا لوجستيًا. كان آلاف العمال المسلحين بخطافات وعربات ينقلون البضائع في صناديق وأكياس بأحجام مختلفة.
كانت العملية بطيئة بشكل مروع: تحميل سفينة متوسطة كان يستغرق أسبوعًا على الأقل. تكاليف العمل والنقل داخل الميناء كانت أحيانًا تشكل بين 60 إلى 75 بالمئة من إجمالي تكلفة الشحن. وكانت الموانئ جنة للصوص: حوالي عشرة بالمئة من البضائع كانت ببساطة "تختفي" على الأرصفة. العولمة، كما نعرفها اليوم، لم تكن ممكنة على الإطلاق.
ثم جاء مالكولم ماكلين، رجل أعمال وسائق شاحنة قاسي من كارولاينا الشمالية، الذي بنى ثروته من شركة نقل. كان رجل يابسة، ليس رجل بحر. كان يكره الهدر الذي رآه في الموانئ. كانت فكرته بسيطة، مثل كل الأفكار العبقرية: لماذا نفرغ الحمولة من الشاحنة، ونحملها طردًا طردًا على السفينة، ثم نعيد كل العملية بالعكس في الطرف الآخر، إذا كان بالإمكان ببساطة رفع كل صندوق الشاحنة – الحاوية – ووضعه مباشرة على السفينة؟
في 26 أبريل\نيسان 1956، غادرت ناقلة نفط قديمة تم تحويلها، "Ideal X"، ميناء نيوآرك متجهة إلى هيوستن وهي تحمل 58 حاوية من هذا النوع على سطحها. من تلك اللحظة، تغير العالم إلى الأبد. كانت الثورة فورية وشاملة. تكلفة تحميل طن من البضائع انخفضت من خمسة دولارات وستة وثمانين سنتًا إلى ستة عشر سنتًا فقط. انخفاض بنسبة 97%.
تم تقليص وقت التحميل من أسبوع إلى بضع ساعات. وتم القضاء على السرقات بشكل شبه كامل. ولكن إذا كان مالكولم ماكلين هو مبتكر الحاوية، فإن الجيش الأمريكي كان العم الثري الذي تبناها وعززها. خلال حرب فيتنام، واجه الجيش الأمريكي كابوسًا لوجستيًا. اصطفت السفن المحملة بالمعدات العسكرية لأشهر في موانئ فيتنام الجنوبية، في انتظار تفريغ حمولتها.
المرحلة الأولى: السيطرة الجسدية
الحل؟ البنتاغون وقع عقدًا مع شركة Sea-Land التابعة لماكلين. فجأة وصلت البضائع إلى وجهتها بسرعة.
الحرب حولت الحاويات إلى معيار عالمي وأجبرت الموانئ في جميع أنحاء آسيا على التكيف. بشكل ساخر، فإن النظام اللوجستي الذي بنت الولايات المتحدة لمحاربة الشيوعية في آسيا هو نفس النظام الذي مكّن أكبر دولة شيوعية في العالم من أن تصبح أكبر منافس اقتصادي لها.
الصين لم تكتفِ بالاستخدام، بل تعلمت، قلدت وانتَصرت على الغرب في لعبته. من خلال الهندسة العكسية والدعم الحكومي، بنت أحواض سفن عملاقة وشركات شحن هائلة. اليوم، شركة صينية واحدة تنتج حوالي 90٪ من الحاويات في العالم، وسبعة من أكبر عشرة موانئ في العالم تقع في الصين. النتيجة كانت تغيّرًا تكتونيًا في المشهد الجغرافي والاجتماعي في الصين. فجأة، من العدم، نمت مدن موانئ هائلة.
الصين لم تكتفِ بالسيطرة على الإنتاج والموانئ في أراضيها. بل بدأت تبني وتدير موانئ في جميع أنحاء العالم – من بيرايوس في اليونان وحتى جوادر في باكستان. هي تدرك أن السيطرة على نقاط المفاتيح في شبكة الحاويات العالمية تمثل رافعة قوة هائلة. هذا نوع جديد من الإمبريالية – إمبريالية لوجستية.
المرحلة ب': التحول الجيو-مالي
هنا يأتي التحوّل الجيو-مالي الأكثر إدهاشًا. الصين تبيع للغرب سلعًا بقيمة تريليونات الدولارات. لكن ماذا تفعل بكل هذه الدولارات التي تربحها؟ شيء عبقري: تستخدمها لشراء ديون الحكومة الأمريكية (سندات أمريكية).
فكروا في هذا العبث: الصين تستخدم نفس المال لكي تقدم قرضاً لحكومة الولايات المتحدة، قرض يُمكّن المواطنين الأمريكيين من الاستمرار في شراء المنتجات من الصين. هذه أداة لنقل الثروة تجعل الاقتصاد الأمريكي، إلى حد كبير، تحت رحمة بكين. ترامب يحاول إيقاف ذلك.
المرحلة ج': عندما تصبح القصة مقلقة حقًا
تلك الشركات الصينية التي تسيطر على الخدمات اللوجستية البحرية، هي أيضًا نفس الشركات المتورطة في مدّ وصيانة الكابلات التي يمر عبرها 99% من الاتصالات العالمية.
هل هذا صدفة؟ ليس تمامًا. هذه محاولة للسيطرة على تدفق المعلومات الرقمية. ولكن حتى هذا ليس هو الخطوة النهائية، لأن ماذا لو أن الحاوية نفسها تتوقف عن كونها جمادًا وتبدأ في التفكير؟ الصين تستثمر في تطوير حاويات ذكية مجهزة بحساسات GPS ودرجة الحرارة والحركة، والاتصال بشبكات 5G والذكاء الاصطناعي.
ماذا يعني ذلك؟ أن بكين سيكون لديها قريباً جداً القدرة على معرفة في الوقت الحقيقي أين يوجد كل حاوية في العالم، ماذا يوجد بداخلها، إذا قام أحد بفتحها وفي أي حالة البضاعة.
فكروا في هذه القوة. القدرة على معرفة بالضبط أين توجد شحنة رقائق حرجة لاقتصاد الولايات المتحدة أو إبطاء شحنة أدوية لدولة خصم بشكل سري.
قصة القرن العشرين كانت عن كيفية ملء الصندوق. قصة القرن الحادي والعشرين هي عن ما سيحدث عندما يبدأ الصندوق في إرسال تقاريره إلى الوطن. الصين لا تبني فقط إمبراطورية اقتصادية، بل تبني الجهاز العصبي المركزي للتجارة العالمية. والسؤال الكبير ليس إذا كانت ستستخدم هذه القوة، بل متى.